الأحداث الوطنية|أقلام حرة

فاطمة الزهراء علمي… حكامة المعرفة وبهاء القيادة الجامعية

IMG-20251023-WA0034

بقلم :حبيل رشيد.

يقول الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت: «القيادة ليست في أن تسير أمام الناس، بل في أن تجعلهم يرون الطريق بأنفسهم.»
ومنذ أن ارتقت فاطمة الزهراء علمي إلى سدّة العمادة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بعين الشق، بدا أن المقولة كُتبت لها دون سواها. لم تأتِ إلى المنصب لتتسلّق سلّماً إدارياً، بل لتمنح الفكرة روحاً، والمكان نبضاً، والجامعة معنى يتجاوز الجدران والملفات والميزانيات. كانت تدرك منذ اللحظة الأولى أن الكلية ليست هيكلًا من حجر، بل كائن حيّ يتنفس بالطلبة، ويتغذى من المعرفة، ويزدهر بالحكامة التي تُمارس لا التي تُعلن.

في زمنٍ كانت فيه المؤسسات الجامعية تتأرجح بين البيروقراطية والجمود، دخلت فاطمة الزهراء علمي المشهد بروح إصلاحية متّقدة، كمن يحمل مشعلًا في رياح عاتية. لم تكن مغرمة بالمظاهر ولا مولعة بالتصريحات، بل آمنت بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الصمت المنجز، من تلك التفاصيل الصغيرة التي تخلق الفرق. كانت تراقب بعين خبيرة ما يغفل عنه الآخرون، وتعيد ترتيب الأولويات على نحو يجعل الطالب في مركز كل شيء.

منذ تولّيها العمادة، تغيّرت ملامح الكلية تدريجيًا، دون صخبٍ أو ادعاء. لم يكن الأمر ثورة، بل نهضة ناعمة تقوم على الرؤية والعقل والتخطيط المتبصّر. كانت تعلم أن الحكامة في جوهرها ليست نظامًا لتسيير الأمور، بل فلسفة في تدبير الإنسان والمعرفة. لذلك بنت مشروعها على ثلاثة أعمدة: التواصل، الشفافية، والعدالة الأكاديمية.

تواصلها لم يكن رسميًا جامدًا، بل إنسانيًا دافئًا؛ كانت تفتح أبوابها أمام الطلبة، تسمع قبل أن تحكم، وتناقش قبل أن تقرّر. جعلت من الإدارة فضاء للحوار لا للحواجز، واعتبرت أن سلطة المنصب لا تكتمل إلا إذا امتزجت بسلطة الاحترام المتبادل. ومن هنا وُلدت هيبتها: من التوازن النادر بين الصرامة والرحمة، بين القرار والإنصات، بين الواجب والوجدان.

حين تتحدث فاطمة الزهراء علمي عن الجامعة، فإنك لا تسمع مديرة تتحدث عن مرفق عمومي، بل امرأة تؤمن برسالة سماوية اسمها العلم. تقولها بنبرة فيها إيمان راسخ: “الجامعة ليست مكانًا للعبور، بل موطن تكوين الإنسان في كليته.” هذه العبارة وحدها تختصر فلسفتها في القيادة: أن تكون الجامعة بيتًا للمعنى قبل أن تكون مؤسسة للمعرفة.

لقد حوّلت العميدة بنهجها الرصين كلية عين الشق إلى مختبر فعلي للحكامة الحديثة. لم تعد القرارات تُتخذ في المكاتب المغلقة، بل في فضاءات التشاور. لم يعد الطالب مجرد رقم في لائحة، بل كيانًا فاعلاً له رأي وصوت. في عهدها استعاد الموظف كرامته، والأستاذ مكانته، والطالب احترامه لذاته. كانت تعلم أن العدالة الأكاديمية لا تتحقق بإصلاح القوانين فقط، بل بإصلاح النفوس والعلاقات، بإعادة الثقة بين مكوّنات الكلية، وبين الجامعة ومجتمعها.

تجلّت عبقريتها في قدرتها على دمج الانضباط الإداري بروحٍ تربوية نبيلة. لم تكن ترى في التعليم العالي مجالاً لتكديس المعطيات، بل لتخليق الإنسان. كانت تتعامل مع المؤسسة كمن يعتني بحديقة: تعرف متى تُسقى ومتى تُهذّب ومتى يُترك لها أن تنمو بحرّيتها. لم تكن القيادة عندها أمراً تقنياً، بل موقفًا أخلاقيًا من الوجود، لأن من يقود العقول يجب أن يحمل في داخله ضوءاً لا ينطفئ.

ولأنها تؤمن بأن الجامعة مرآة المجتمع، جعلت من كلية عين الشق منارة للتفاعل مع قضايا الوطن. فتحت أبوابها أمام المبادرات الطلابية، وشجّعت اللقاءات الفكرية والندوات العلمية، ورعت كل ما يُعلي من قيمة الحوار والاختلاف. كانت ترى في كل نشاط طلابي فرصة لتربية الجيل الجديد على المواطنة الفكرية، وعلى احترام التنوع والجدل البنّاء.

وما ميّزها أيضًا أنها لم تكن من ذلك الصنف الذي يرى في المنصب سلطة، بل مسؤولية ثقيلة تفرض التواضع أكثر من التباهي. في كل مناسبة كانت تذكّر بأن الجامعة ليست ملكًا لأحد، بل ملك للوطن. تلك الرؤية جعلتها محل احترام الجميع، لأنها لم تُمارس القيادة كسلطة، بل كخدمة عامة مخلصة تُؤدى بضمير.

ولأنها مثقفة بالجوهر لا باللقب، كانت فاطمة الزهراء علمي تقرأ التحوّلات المجتمعية بعين الفيلسوف وتترجمها بلغة الممارس. كانت تدرك أن التعليم العالي يعيش زمنًا جديدًا، وأن الإصلاح لا يمكن أن يظل حبيس النصوص، بل يجب أن يتجسّد في طريقة التفكير. لذلك، زرعت في الكلية ثقافة جديدة قوامها الابتكار والتجديد والمسؤولية المشتركة، حتى صارت الكلية ورشة مستمرة للبحث والمبادرة والتجريب.

من يشهد مسارها يدرك أن نجاحها لم يأتِ من فراغ، بل من سيرة مهنية حافلة بالاجتهاد والمعرفة والتدرّج الطبيعي الذي يصنع القادة الحقيقيين. كل محطة من مسارها كانت إعدادًا لما بعدَها، وكل تجربة كانت درسًا في الصبر والذكاء والقدرة على الإصغاء للزمن. لم تكن ممن يسلكون الطرق السهلة، بل اختارت المسالك الوعرة التي لا يخطو فيها إلا من يحمل رؤية ومبدأ.

في علاقتها بالأساتذة، كانت مثالًا يُحتذى في الاحترام المتبادل والتقدير للكفاءة. لم تنظر إلى الأستاذ من منظور إداري ضيق، بل كركيزة أساسية في منظومة المعرفة. فتحت أمامهم آفاق البحث، وسعت إلى دعم مشاريعهم، ووفّرت لهم المناخ الملائم للإنتاج العلمي. كانت تعرف أن الجامعة لا تُقاس بعدد طلبتها فقط، بل بنوعية فكرها وبكفاءات أطرها.

أما الطلبة، فقد وجدوا فيها صورة الأمّ الحازمة والعادلة في آن واحد. كانت تراهم أبناءً للجامعة لا زوّارًا عابرين. سعت إلى تخفيف معاناتهم الإدارية، وتوفير ما أمكن من ظروف الاستقرار النفسي والاجتماعي، لأن التعليم لا يزدهر في بيئة القلق والتهميش. كانت تردّد دائمًا: “الطالب لا يُحاسَب فقط على ما يُنتج، بل يجب أن نضمن له بيئة تُنتج معه.” لذلك كان حضورها في كل لحظة يشعرهم بالأمان والانتماء.

في عهدها، اكتسبت كلية عين الشق هوية جديدة تجمع بين الأصالة والتحديث. لم تعد مجرد مؤسسة جامعية في العاصمة الاقتصادية، بل مركز إشعاع فكري يُحسب له حساب في المشهد الأكاديمي الوطني. وتلك ثمرة سنوات من التخطيط الرصين، ومن التسيير الذكي الذي لا يترك شيئًا للصدفة.

لقد فهمت العميدة أن الحكامة ليست هدفًا إداريًا، بل فنّ في تحويل القيم إلى ممارسات. فحين تتحدّث عن الشفافية، لا تكتبها في تقارير بل تمارسها في العلن. وحين تتحدّث عن العدالة، لا ترفع شعارها في المناسبات بل تترجمها في القرارات اليومية. كانت تقول دائمًا لمن حولها إن القيادة لا تُقاس بمدى السيطرة على الآخرين، بل بمدى قدرتك على إلهامهم.

إنها امرأة من طينة نادرة، لا تكلّف الآخرين بما لا تفعله، ولا تفرض الانضباط إلا لأنها تمارسه أولاً. وهذا ما جعلها تحظى بثقة مؤسسية وشخصية نادرتين في الوسط الجامعي، إذ استطاعت أن توفق بين لغة الإدارة ولغة الإنسانية، بين دقّة الأرقام وحرارة القيم.

في محيطها المهني، يُجمع الجميع على أنها أنموذج للقيادة الهادئة التي لا تُحدث ضجيجًا حين تعمل، لكنها تُغيّر الملامح حين تمضي. لم تركض وراء الأضواء، بل كانت الأضواء تأتيها لأنها ببساطة تُنير دون أن تقصد. في كل اجتماع، في كل لقاء، تفرض حضورها بلباقة وهدوء وإصغاء دقيق يجعل مَن أمامها يشعر أن كلمته ذات وزن.

وقد تبدو هذه الصفات نادرة في زمنٍ يُقاس فيه النجاح بكمّ الظهور الإعلامي، لكنها اختارت طريقًا مختلفًا: طريق العمل الصامت المثمر. وبهذا وحده تحقّقت إنجازات ملموسة: انتظام الدراسة، انسيابية التواصل، تسريع الخدمات، وتحسين صورة الكلية لدى المجتمع والطلبة على حدّ سواء.

ما يثير الإعجاب في تجربتها هو قدرتها على إدخال الجمال في الفعل الإداري. فهي لا ترى التسيير عملية حسابية، بل علاقة أخلاقية بين الإنسان والمؤسسة. كل قرار عندها يمرّ من ميزان الضمير قبل ميزان النصّ، وكل ورقة تحمل توقيعها تحمل أيضًا أثر إنساني لا يُمحى.

هي تدرك أن التاريخ لا يكتبه من يرفع صوته، بل من يترك أثرًا في النفوس. لذلك ظلّ اسمها يرتبط بالثقة والصدق والفاعلية، حتى صار يُذكر في الوسط الأكاديمي باحترامٍ خاص، كأنها تغرس في الجامعة روحًا جديدة لا يخطئها أحد.

ولأنها ابنة زمنٍ يعرف صعوبة القيادة النسائية في فضاءات يغلب عليها الطابع الذكوري، فقد كسرت الصورة النمطية لا بالخطاب النسوي الصاخب، بل بالكفاءة والهيبة والمثابرة. كانت تقول ضمنيًا إن التمكين الحقيقي للمرأة لا يكون بالمناداة به، بل بإثباته يومًا بعد يوم في الميدان. وبهذا صارت رمزًا لنجاح المرأة المغربية في القيادة الأكاديمية، ووجهًا مشرقًا للجامعة الوطنية.

في حضورها شيء من الطمأنينة النادرة، تلك التي تُذكّرك بأن القيادة ليست فنّ الإدارة فحسب، بل فنّ الإصغاء إلى ما وراء الكلمات. تملك حسًّا أخلاقيًا يجعلها توازن بين العدل والحكمة، وتملك من الرؤية ما يكفي لتقود السفينة في بحرٍ متقلّب دون أن تفقد الاتجاه.

ولأنها تؤمن بالاستمرارية لا باللحظية، بنت مشروعها على الأمد الطويل، واضعة نصب عينيها هدفًا واضحًا: أن تكون كلية عين الشق أنموذجًا وطنيًا للحكامة الجامعية، حيث يُقاس النجاح بالتحسن الفعلي في حياة الطلبة والأساتذة لا بالأرقام الجافة.

لقد آمنت بأن القيادة مسؤولية ثقافية قبل أن تكون إدارية، وأن العلم لا يزدهر إلا في بيئة أخلاقية شفافة. لذلك، كلما تكلّمت عن الجامعة المغربية، أضاء كلامها أفقًا جديدًا، لأن رؤيتها ليست إصلاحية جزئية، بل إنسانية شاملة.

وحين تنظر إلى تجربتها بعد هذه السنوات، تدرك أن ما أنجزته يتجاوز الحصيلة المادية؛ فقد نجحت في إعادة المعنى إلى الفعل الجامعي. جعلت الطالب يشعر أنه جزء من الحلم، والأستاذ أنه شريك في البناء، والإدارة أنها قلب نابض لا آلة جامدة. بذلك، استحالت الكلية إلى مجتمع صغير تسوده الثقة والكرامة والعمل الجماعي.

ليست فاطمة الزهراء علمي مجرد عميدة، بل فيلسوفة في هيئة إدارية، ومربية في هيئة قائدة، وبانية في هيئة إصلاحية. لا تحتاج إلى المديح، لأن إنجازاتها تتحدث عنها، ولأن الأثر الذي تركته في الوجدان الجامعي لا يُقاس بلغة الأرقام.

في حضرة سيرتها، نفهم أن القيادة في التعليم ليست امتيازًا، بل تضحية يومية تتطلب صبرًا نادرًا وإيمانًا لا يتزعزع بأن خدمة الطالب هي أسمى أشكال الوطنية. لذلك حين تُمضي يومها بين الملفات واللقاءات، تفعل ذلك بوعيٍ عميق بأن ما تقوم به اليوم سيؤثر في جيلٍ كامل غدًا.

وكم هو جميل أن ترى في زمن التيه الإداري شخصية تجمع بين الهيبة والعقل والضمير. شخصية لا تخاف الصراحة، ولا تتراجع عن المبدأ، ولا تساوم على القيم. فهي تعرف أن الكلية ليست مكانًا لتدبير الوقت، بل مصنعًا للوعي. وأن العلم بلا أخلاق كالسفينة بلا بوصلة.

إن حكامة فاطمة الزهراء علمي ليست مجرّد أسلوب في التسيير، بل مدرسة فكرية في القيادة الجامعية. مدرسة تُعلّمنا أن القائد الحقيقي هو من يصنع من كل عقبة فرصة، ومن كل اختلاف طاقة، ومن كل نقد درسًا. وأن الإصلاح لا يكون بتغيير الأشخاص، بل بتغيير الذهنيات.

وحين يكتب المؤرخون يومًا عن مرحلة التحوّل في كلية عين الشق، سيذكرون أن هذه المرحلة كانت بصمة امرأة آمنت بالعلم والإنسان أكثر من المنصب واللقب، وأنها جعلت من الكلية نموذجًا للجدية والرقي والمسؤولية.

لقد وضعت العميدة فاطمة الزهراء علمي أساسًا صلبًا لثقافة جديدة في الجامعة المغربية، ثقافة تُعيد الاعتبار للمعنى في زمن طغت فيه التقنية على الروح. وبهذا فقط، تستحق أن يُقال عنها إنها ليست مجرد مسؤولة، بل رؤية تمشي على الأرض.