الأحداث الوطنية|أقلام حرة

حين يختبرنا الطفل بالحرف: الكتابة الصادقة لا تعرف الأقنعة

IMG-20251021-WA0065


— من كلمة للكاتبة ثريا هديوي

ليست الكتابة للأطفال تمريناً لغوياً ولا تسلية أدبية كما يظن البعض… إنها امتحان في الصدق، في البساطة، في القدرة على لمس جوهر الإنسان دون وسائط معقدة. فالطفل قارئ لا يُجامل… لا تستهويه العبارات المنمقة ولا يُخدَع بالصورة الجميلة إن لم يشعر بدفء الحقيقة خلفها. والكاتب الذي يغامر بولوج هذا العالم عليه أن يتجرد من الأنا، وأن يعود إلى تلك البراءة الأولى التي تُرى فيها الأشياء كما لو أنها تُخلق الآن. ومن بين الأصوات المغربية التي نجحت في اجتياز هذا الامتحان النادر، يبرز اسم الكاتبة ثريا هديوي… المربية والقصّاصة التي استطاعت أن تمزج التربية بالفن، وأن تحوّل الكلمة إلى جسرٍ بين المعرفة والخيال، بين التعليم والمتعة، بين الصدق والجمال.

ثريا هديوي لا تكتب من برجٍ عاجي ولا من خلف مكتبٍ بارد، بل من قلب الميدان التربوي، من حرارة الفصول الدراسية، من تلك اللحظات التي تتقاطع فيها الأسئلة البريئة مع الرغبة في الاكتشاف. هي معلمة تعرف كيف يفكر الأطفال، وكيف يسألون، وكيف يندهشون. لذلك جاءت نصوصها محمّلة بنَفَسٍ إنساني عميق، يجعل من القصة درساً في التفكير قبل أن تكون درساً في اللغة. أعمالها لا تستهدف الطفل ككائن ناقص يحتاج إلى تلقين، بل كعقلٍ حيّ قادر على المشاركة في بناء المعنى. في كل نصّ من نصوصها حضور تربوي غير مباشر، كأنها تهمس للقارئ الصغير: تعلّم أن ترى بنفسك، أن تكتشف، أن تسأل دون خوف، فالحكاية هي الطريق نحو المعرفة.

حين نقرأ عملها “في عرين الأسد” ندرك أن القصة ليست مجرد مغامرة خيالية لطفلٍ يتحدى الخطر، بل هي رحلة داخل الذات، نحو اكتشاف الشجاعة الحقيقية التي لا تكمن في القوة بل في مواجهة الخوف. العنوان وحده كافٍ ليمنح القارئ انطباعاً بأن الأمر أكبر من حكاية بسيطة. إنه عنوان رمزي، يختصر علاقة الطفل بالعالم: عالمٌ مليء بالتحديات والمفاجآت، يحتاج فيه الصغير إلى أن يتعلم كيف يواجه الحياة دون أن يفقد براءته. وفي كل فقرة من القصة، نلمس كيف تزرع الكاتبة القيم داخل الحكاية دون وعظٍ أو تقرير، تجعل الطفل يكتشف المعنى بنفسه، فيفرح أكثر، ويتعلّم دون أن يشعر أنه يتعلّم.

إن سرّ تميّز ثريا هديوي أنها تجمع بين عقل المربية وقلب الكاتبة… بين من يعرف كيف يعلّم، ومن يعرف كيف يسحر بالكلمة. فهي لا تفصل بين التعليم والإبداع، بل تعتبرهما وجهين لعملة واحدة. لذلك تتجنّب الأسلوب المدرسي الجاف، وتبتعد عن الوعظ المباشر، لتخلق لغة رشيقة شفافة تُشبه النور حين يتسلّل من نافذة الصف في صباحٍ شتويّ. لغتها بسيطة لكنها عميقة، موسيقية دون تصنّع، تلتقط التفاصيل الصغيرة وتحوّلها إلى رموز كبرى، وتستثمر في خيال الطفل لا في ذاكرته.

ولعل أجمل ما يميزها هو إيمانها بأن الطفل ليس مشروعاً ناقصاً بل إنساناً كاملاً في طور التكوين. هذا الوعي يجعلها تكتب من منطلق الاحترام، لا من منطلق الوصاية. لذلك لا نجد في نصوصها تلك اللغة “المتصابية” التي تُغلف الفكرة بألوان اصطناعية، بل نجد صدقاً يذكّرنا أن الكتابة للطفل هي شكل من أشكال التربية الوجدانية… تربية الذوق، وتربية الروح، وتربية الحس الجمالي. فالطفل الذي يقرأ جملة جميلة يتعلّم حب اللغة، والطفل الذي يواجه بطلاً يخاف ثم يتجاوز خوفه يتعلّم أن الشجاعة ممكنة.

في زمنٍ صارت فيه الشاشات تُغري الأطفال بالألوان والحركات، تأتي قصص هديوي كنافذة نحو الصمت الجميل… نحو القراءة التي تُعيد بناء الخيال. فهي تدرك أن الصورة تُشبع العين لكنها تضعف المخيّلة، بينما الكلمة تُشعل في الداخل نار التساؤل. إن كتاباتها تُعيد إلينا تلك اللحظة القديمة حين كان الطفل يجلس إلى جوار أمّه أو جدّته ليستمع إلى الحكاية قبل النوم، حين كان العالم يُبنى بالكلمة لا بالشاشة، وبالدهشة لا بالإدمان البصري. ومن هنا، فإن مشروعها الأدبي يمكن اعتباره شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية ضد التصحر الروحي الذي تخلّفه التكنولوجيا حين تُستخدم بلا وعي.

الكتابة للأطفال ليست مجرد فنّ… إنها مسؤولية ثقافية كبرى. فمن خلال القصة تُبنى القيم، وتُزرع البذور الأولى للمواطنة، ويُؤسّس لجيلٍ يعرف كيف يقرأ وكيف يحلم. وثريا هديوي تدرك هذا المعنى جيداً، لذلك نجد في أعمالها وعياً واضحاً بأهمية غرس عادة القراءة منذ الطفولة. فهي لا تكتب من أجل الترفيه، بل من أجل التأسيس، لأنها تؤمن أن الطفل الذي يتعلم حب الكلمة سيكبر ليصبح إنساناً قادراً على التفكير، على النقد، على الإبداع. لهذا فإن كل قصة من قصصها تبدو كقطعة من المستقبل… استثمار ثقافي في أجيال قادمة قد لا نراها، لكنها ستحمل أثر هذه الكلمة الصادقة.

في المقابل، نلمس في كتاباتها أيضاً دفاعاً عن اللغة العربية في زمنٍ تتراجع فيه مكانتها أمام اللغات الأجنبية والإعلام الرقمي. فهي تجعل من العربية جسراً للمتعة، لا عبئاً مدرسياً، وتبرهن للأطفال أن لغتهم قادرة على أن تُدهشهم كما تُدهشهم الرسوم المتحركة. لغتها لا تكرر ما في الكتب الدراسية، بل تحيي الكلمات بلمسة عاطفية، فتجعل الطفل يشعر أن العربية ليست لغة الماضي، بل لغة المستقبل أيضاً. وهنا يتجلّى البُعد الثقافي في تجربتها: حماية الهوية عبر الجمال، لا عبر الخطاب المباشر.

ولأنها مربية قبل أن تكون كاتبة، فهي تعرف أن القيم لا تُفرض، بل تُزرع. لذا تعتمد على الرمز، على الحوار، على الموقف، لا على الوعظ. في قصصها يخطئ الأبطال أحياناً، ويتعلمون من خطئهم، فيكتشف الطفل أن الحياة ليست مثالية وأن الفضيلة لا تأتي دفعة واحدة، بل عبر تجربة ونمو. هذه الواقعية التربوية تمنح نصوصها عمقاً نادراً وتجعلها أقرب إلى الحياة من كثير من القصص التي تصطنع البراءة.

إن صدور كتاب مثل “في عرين الأسد” لا يمثل حدثاً أدبياً فحسب، بل هو إشارة رمزية إلى أن الأدب الموجه للطفل في المغرب بدأ يستعيد مكانته، بعد سنوات من التهميش. فالمشهد الثقافي المغربي، الذي كان يحتفي طويلاً بالشعر والرواية للكبار، بدأ يكتشف أن بناء الإنسان يبدأ من الصفحة الأولى التي يقرؤها وهو صغير. وثريا هديوي تنتمي إلى جيلٍ من الكاتبات اللواتي فهمن أن الحكاية يمكن أن تكون أداة تنمية، وأن الأدب يمكن أن يشارك في بناء الوعي الجمعي. فحين يقرأ الطفل قصة عن الشجاعة، عن الصداقة، عن احترام الاختلاف، فهو يتعلّم دون أن يُلقَّن، ويتربّى دون أن يُؤمَر.

في هذا السياق، يمكن القول إن تجربة هديوي تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ”الكتابة التربوية الإبداعية”، وهي كتابة تُزاوج بين الفكرة والأسلوب، بين الرسالة والمتعة. إنها تؤمن أن القصة ليست نقيضاً للتعليم، بل مكمّلة له، وأن المدرسة يمكن أن تكون مكاناً للحكاية، كما يمكن للحكاية أن تكون امتداداً للمدرسة. بهذا المعنى، فإنها تكتب ليس فقط للصغار، بل أيضاً للكبار الذين نسوا كيف يحلمون.

ومهما اختلفت الموضوعات في قصصها، فإن القاسم المشترك بينها جميعاً هو الإيمان بالطفولة كقيمة. إنها لا تكتب عن الطفل، بل تكتب معه، وتُعيد للكلمة دورها كجسرٍ بين الأجيال. وإذا كانت بعض المجتمعات تنفق الملايين على بناء البنية التحتية المادية، فإن هديوي تنفق وقتها على بناء البنية التحتية الروحية للأمة: خيال الطفل. فهي تعرف أن الطفل الذي يتعلم أن يتخيل لن يكون يوماً تابعاً، بل صانعاً للتغيير.

وفي زمنٍ عربيٍّ تراجعت فيه القراءة إلى المراتب الأخيرة، تذكّرنا تجربة ثريا هديوي أن النهضة الحقيقية تبدأ من الحكاية، من ذلك الصوت الدافئ الذي يقول للطفل: اقرأ لتكبر، لتفهم، لتكون. قصصها تُعيد تعريف مفهوم الأدب الموجّه للطفل، لا باعتباره ترفاً أو تربيةً فنية، بل باعتباره فعلاً ثقافياً وطنياً. فمن خلال الطفل تُبنى علاقة المجتمع بالكتاب، وبالثقافة، وباللغة، وبالقيم.

إن الكتابة للأطفال، كما تقول هديوي نفسها، لا تقبل الأقنعة ولا الزيف… وهذا ما يمنحها مكانتها الخاصة في المشهد الثقافي المغربي والعربي. فهي تكتب بعفوية العارف، وبتواضع المبدع، وبإيمان المربية. كتابتها ليست صرخة، بل همسة… ليست شعاراً، بل وعداً صغيراً يتجدد مع كل طفل يفتح كتابها لأول مرة. وعدٌ بأن تظل الكلمة قادرة على أن تفتح في جدار العالم نافذةً صغيرة يدخل منها الضوء.

وهكذا، حين نقرأ ثريا هديوي، لا نقرأ مجرد قصصٍ للصغار… بل نقرأ مشروعاً ثقافياً متكاملاً، يؤمن بأن الكلمة الصادقة قادرة على أن تبني إنساناً جديداً… إنساناً يبدأ طريقه من الحكاية… ويكمل رحلته نحو الحلم.

بقلم حبيل رشيد.