الحسيمة.. أو حينما يلتقي التاريخ والجغرافيا لرسم مسارات سياحة بديلة


إعداد: فكري ولد علي (الأحدات الوطنية)
الحسيمة، منارة المتوسط وجوهرته، واحدة من الوجهات السياحية التي حباها الله بموقع متميز، وجودها على البحر وفي أحضان جبال الريف جعلها إحدى المناطق التي احتضنت الكثير من التفاعلات الإنسانية، وبالشكل الذي يجعلها تتوفر على أهم عناصر الجدب السياحي، هي نسيج متكامل من المؤهلات الطبيعية والثقافية التي تثير اهتمام مهندسي الحملات التسويقية في المجال السياحي، اليوم تتوفر على بنية سياحية تقدم منتوجا سياحيا متنوعا، بالخصوص السياحة المسؤولة أو البديلة التي تهدف إلى تقديم أصناف من الخدمات السياحية التي تتماشى مع قيم المحافظة على البيئة والهوية الثقافية المحلية، وبالشكل الذي يساهم في تنويع مداخل التنمية وإدماج العناصر التي تضمن فعالية الإستدامة المرجوة
وارتباطا بهذا الموضوع يرى الفاعل في المجال السياحي؛ أنور أكوح؛ أن تطوير السياحة البديلة يتوقف على تطوير عناصر السياحة التقليدية، وأن هذا النوع من السياحة لم تعرفه الحسيمة إلا أخيرا، وعبر بعض المبادرات التي تهدف إلى تثمين المٱثر، الصناعة التقليدية، المنتوجات المجالية… ولكن تظل مبادرات محتشمة، ولم تشكل؛ بعد؛ رؤية متكاملة، فعلى مستوى الحهة -يضيف- لم نمنح للسائح منتوجا متنوعا، فهي تقدم نفس المنتوج، وعليه الحسيمة يمكن أن تشكل منطقة تكامل مع جهة فاس او مراكش وليس طنجة، خاصة عبر الربط الجوي مع مراكش.
راي يؤكده يوسف تشيش؛ مدير المٱوى السياحي “اجنانات” ببني بوفراح؛ حين يقول أن إنعاش السياحة القروية يرتبط بتطوير البنية التحيتية (المسالك القروية والطرق، وساىل النقل، فك العزلة وفتح فضاءات جديدة أمام الساكنة والزوار) الذي من شانه ان يمنح دفعة قوية لهذا النوع من السياحة، وهنا يستشهد -يوسف- بالجماعة التي يشتغل ضمن مجالها، موضحا أن السياحة القروية يها عرفت طفرة نوعية بعد تطوير البنية الطرقية، وهو ما شجع حينها على خلق مٱوى سياحي بدعم من إحدى المنظمات الإسبانية غير حكومية، وأصبح هذا المأوى يساهم بدوره في تسويق المنطقة ولمنتوجاتها المجالية ومواقعها الأثرية.
مشاريع تضع الحسيمة ضمن أفضل وجهات السياحية الإيكولوجية
شهد إقليم الحسيمة؛ سنة 2004؛ إحداث منتزه وطني على مساحة تفوق 48 ألف هكتار بالمنطقة الوسطى من الساحل المتوسطي وفي آخر سلسلة جبال الريف شرقا، وهو المنتزه الذي أصبح يصنف من أجمل المواقع الطبيعية بالمتوسط لتوفره على منظومة ذات قيمة بيولوجية وإيكولوجية فريدة، وتستطيع أن تجلب السياح من محبي الطبيعة والباحثين، خاصة وأن هذا المنتزه يجمع ما بين الوسط البحري والبري، ويتوفر على 60 نوعا من الطيور ك “السرنوف العركي” ونورس “آدوان” وعقاب البحر، وأنواعا من الكائنات البحرية كالفقمة و86 نوعا من الأسماك وثلاث فصائل من الدلافين والمرجان الأحمر، وثروة نباتية مهمة كالعرعار والخروب والبلوط القرمزي والحلفاء والدوم.
وفي سياق متصل شهدت الحسيمة لقاء للتعريف بمشروع Reboot Med للسياحة البيئية والإقتصاد الأزرق، والذي يهدف إلى تشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وبرمجة مشاريع لتثمين المؤهلات البيئية بالمناطق الساحلية الغرب متوسطية، وهو الإجتماع الذي انبثق عنه إحداث شبكة للجماعات الترابية تحمل إسم “جمعية جماعات المنتزه الوطني للحسيمة بادس” كما سبق للجهة أن خصصت خلال دورة يوليوز 2021 حوالي 15 مليون درهم لتهيئة ثلاث منتزهات بالحسيمة، وصادقت خلال دورة مارس 2023 على اتفاقيات لإنعاش السياحة بالجهة من بينها إحداث ست مسارات جبلية ب 30 مليون درهم للرفع من جاذبية المنطقة إلى مصاف الوجهات السياحية الكبرى، حيث ينتظر أن يتم خلق مسار “المنتزه الأزرق” بالحسيمة.
وفي إطار “منارة المتوسط” استفادت الحسيمة من مشروع إيكولوجي هو الأول من نوعه وطنيا ويتعلق الأمر بمنتزه “بوجيبار” الذي يهدف إلى تطوير السياحة الإيكولوجية عبر إنجاز متحف إيكولوجي لإطلاع السياح على المؤهلات البيئية للإقليم، وتقريبهم منها والمشروع يشمل عدة فضاءات من بينها مضمار معلق للمشي بطول 400 متر، أيضا متحف العلوم البحرية والمحيطات، سيساهم في هذه الجاذبية، وهو عبارة عن معرض لمكونات المنظومة البحرية بالسواحل المتوسطية، وأنشطة الصيد الساحلي والتقليدي، وأيضا الوسائل التقليدية التي اشتهرت بها ثقافة الصيد محليا كأنواع وأشكال المراكب والقوارب والشباك.
المتحف؛ الذي يرتقب أن يفتتح قريبا؛ انجز في إطار “الحسيمة..منارة المتوسط” من طرف وزارة الفلاحة والصيد البحري والمعهد الوطني للبحث في الثروات البحرية، وبتكلفة وصلت 40 مليون درهم، فيما رصدت وكالة تنمية أقاليم الشمال 100 مليون سنتيم لتهيئته الخارجة، مما سيمنح للمنطقة فضاء لجلب السياح ومنارة علمية ستستقطب الزائرين والطلبة وكل المهتمين بثقافة الصيد البحري للتعرف على مجموعة من النباتات والأسماك والنظم البيئية البحرية.
“المنارة” تنير دهاليز المواقع التاريخية للحسيمة.
السائحون في دروب التاريخ والباحثون عن عبق الماضي أكيد سيجدون في الحسيمة الكثير من المجطات التي ستشفي غليلهم، وتستجيب لشغفهم المعرفي والإنساني، حيث تتواجد مجموعة من المٱثر التي تجسد عراقة الحسيمة التي يعتقد البعض أنها مجرد تأسست مع بداية الحماية الإسبانية، وأنها منطقة لا تتميز على المستوى السياحي إلا برمالها الذهبية ومياهها بحارها النظيفة، فيما الواقع يؤكد انها وجهة تتوفر على منتوج سياحي متنوع ومتكامل.
ومما سيزيد من جاذبية السياحة الثقافية بالحسيمة هو الاهتمام الذي حظيت به بعض المآثر، وترميمها من طرف وزارة الثقافة بشراكة مع الداخلية ضمن برنامج “الحسيمة..منارة المتوسط” بهدف تثمين التراث الغني والمتنوع للإقليم، حتى يقوم بدوره كرافد للتنمية الشاملة عبر إنعاش السياحة وخلق العديد من فرص الشغل، وعقد شراكات مع الجماعات الترابية التي تحتضن هذه المواقع الأثرية لضمان ديمومتها وتدبيرها بشكل أفضل.
خمسة معالم اثرية حظيت بالتفاتة خلال السنوات الاخيرة حيث خصص لترميمها مبلغ 32 مليون درهم، شملت ترميم وتهيئة الموقع الأثري “المزمة” الواقع بأجدير، وقصبة سنادة بجماعة سنادة، وكذلك ترميم قلعة “الطوريس” ببني بوفراح وتهيئة مجالها الخارجي، فضلا عن ترميم البنيات الأثرية لمدينة باديس، والقلعة الحمراء بأربعاء تاوريرت، حيث ينتظر أن تضطلع هذه المعالم بدور هام في إنعاش السياحة الثقافية.
مدينة حديثة بمسارات من الماضي
على خط الساحل الجنوبي للمتوسط، تقابلك “المزمة” بشموخ ظل يقاوم لقرون، منذ أن أصبحت بداية القرن 11م بديلا لمدينة “النكور”، موقعها المقابل لجزيرة النكور جعل منها محل اهتمام كل الأسر الحاكمة بالمغرب، فبعد الدولة المرابطية أصبحت المزمة غاية في الإشعاع على عهد الدولة الموحدية، كما تم تسويرها بداية القرن 13م، لتنتقل بعد سنوات الى نفوذ الدولة المربنية وتصبح قاعدة لقيادة وضبط مختلف التحركات بساحل المتوسط، بل ظلت محافظة على حضورها خلال الدولة السعدية والعلوية.
حوالي 47 كلم من الحسيمة؛ تقبع باديس التي شيدت على أنقاض المدينة الرومانية Praietina، وكانت تتوفر على “دار” لصناعة السفن، وربطت المغرب بموانئ تونس مصر والشام كما جنوب فرنسا وايطاليا واسبانيا…، عرفت أوجها وتالقها ما بين القرن 11م والقرن 13م، وغدت ملاذا لأسماء وقامات من أهل الثقافة والمعرفة والعلم… كالفقيه والأديب لسان الدن بن الخطيب؛ الذي أبدع اثناء مقامه بها سينية طويلة وبديعة.
على نفس الساحل وحوالي 98 ميلا غرب المدينة تترائ لك قلعة هي مزيج بين المعمار المغربي والأندلسي، يعود تاريخها إلى القرن 13م، إنها قلعة “طوريس” أو قلعة “صنهاجة” التي تتضمن خمسة أبراج مستديرة مشيدة بمواد تتكون من الحجارة والحصى والجير باستعمال تقنية Tabiya المعروفة في العمارة العسكرية في الأندلس والمغرب الأقصى حيث يؤدي إستخدام هذه التقنية إلى تقوية الأبراج وتماسك عناصرها.
بجماعة سنادة؛ على بعد 38 كلم من الحسيمة؛ ينتصب أحد الصروح العسكرية بشمال افريقيا، إنه قلعة “سنادة” التي بنيت في عهد السعديين بهدف دحر الاستعمار الاسباني ومحاولة مباغتته قبل التوغل في البر، وتضم سبعة أبراج على مساحة 15 الف متر مربع، ضمنها الحامية العسكرية التي اقامها المولى اسماعيل سنة 1702 ومرافق اخرى لإيواء الجيوش ومخازن المؤن واسطبلات، وبجانب الأسوار الخارجية توجد المدرسة الإسلامية والاكاديمية العسكرية التي انشىت 1946، والمقبرة اليهودية التي يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن 16م
بأربعاء تاوريرت؛ على بعد 40 كلم من الحسيمة؛ قرر الكولونيل الاسباني “ايميليو بلانكو” خلال الأربعينيات بناء قلعة استوحى تصميمها من قصبات الجنوب، وهي توليفة بين المعمار المغربي الإسلامي الأمازيغي والمعمار الإسباني، اليوم لزالت معالمها تترائ لك في مقامها على علو 400 متر فوق هضبة محاذية لوادي النكور، “فيسينا” التي ليست سوى تحوير للكلمة الإسبانية oficina، هي بثلاث طوابق تغطي 900 متر مربع، وتضم 99 غرفة خصصت للمرافق الادارية، المحكمة، مستوصف، السجن، مخازن الحبوب واسطبلات…
مسارات السياحة الثقافية بالحسيمة لا تقف عند المعالم التي خضعت للترميم فقط، بل هي سفر متواصل منذ القرن 8 م حيث قيام “النكور” كاول إمارة إسلامية مستقلة بالمغرب الأقصى، وهي على بعد 25 كلم من المدينة، موقع اخر يستحق ان يكون مزارا للوافدين على الحسيمة، إنه مسجد المحرابين (ق 14م) الذي يقع على بعد 58 كلم من المدينة بجماعة بني جميل مسطاسة، غير بعيد عن الطريق الساحلية الرابطة بين تطوان والحسيمة.