.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران: “ليست أزمة الإنسان في جهله بالعلم، بل في عجزه عن توجيه علمه نحو المعنى… إننا نعيش زمنًا تآكلت فيه البصيرة تحت ضغط السرعة، وذابت فيه الحكمة وسط ضجيج المعرفة… وحدهم المفكرون الذين يجمعون بين الفعل والفكر، بين التعليم والسياسة، من يملكون مفاتيح النهضة الحقيقية.”
هكذا يطلّ علينا اسم الدكتور رشيد مقتدر كأحد تلك النماذج النادرة التي لا تكتفي بالتحليل من مقعد المراقب، بل تُمارس الفهم كمشروع حياة، وتُحوّل الفكر إلى استراتيجية، والوعي إلى سلطة ناعمة قادرة على اختراق جدار الواقع. فالرجل لا ينتمي إلى صنف الأكاديميين التقليديين الذين يحتمون بالمصطلحات لستر عجزهم عن التغيير، بل هو من أولئك الذين يغامرون بالفكرة في الميدان، ويضعون النظرية في مواجهة الغبار السياسي اليومي.
في زمنٍ أصبحت فيه السياسة مشهدًا للاستهلاك لا للتفكير، برز الدكتور مقتدر كمثقفٍ يقظٍ يرفض الانخداع ببريق الخطاب ويقرأ ما وراء الكلمات. في كل تحليلاته، نلمح حذر المفكر الذي يعرف أن السلطة ليست فقط ما يُرى في المؤسسات، بل ما يُبنى في العقول… وأن التعليم ليس مجرّد تلقين للمعلومات، بل صناعة للإنسان القادر على التفكير خارج السطر. فحين يتحدث عن المدرسة، لا يراها كفضاءٍ إداريٍّ أو هندسة بيداغوجية جامدة، بل كجبهةٍ استراتيجية في معركة بناء الدولة.
إنّ فكر رشيد مقتدر يُذكّرنا بما قاله أنطونيو غرامشي حين اعتبر أن المثقف الحقيقي هو من يقف في قلب الصراع الاجتماعي، لا على الهامش. وهذا ما فعله الرجل في مسيرته الأكاديمية والسياسية، حيث جمع بين عقلٍ تحليلي رصين، ولسانٍ نقديٍّ لا يخاف من مساءلة المسلّمات، وقلبٍ لا يزال مؤمنًا بأن الإصلاح يبدأ من الفكرة لا من القرار.
حين يتحدث الدكتور مقتدر عن أزمة التعليم، يُدرك أن المسألة أعمق من المناهج والبرامج. إنه يرى التعليم كـ”نظام رمزي” يحدّد شكل المستقبل، وكأداةٍ لصياغة الوعي الجمعي. لهذا يربط دائمًا بين “السياسة التعليمية” و”الهوية الوطنية” و”الأمن الثقافي”، فهو لا يتعامل مع المدرسة كمؤسسة بل كمفهومٍ سياديٍّ بامتياز. لذلك، حين ينتقد، لا يفعل ذلك من موقع الغضب، بل من موقع الحارس الذي يخاف على الوطن من التكلّس، وعلى الأجيال من التفاهة.
وفي حديثه عن السياسة، لا يقع في فخ الخطاب الأخلاقي الساذج، بل يحلّلها بمنطق المفكر الذي يعرف أن السلطة لا تُدان ولا تُقدّس، بل تُفهم. فبين الواقعية والمبدئية، بين المصلحة والمبدأ، يوازن الدكتور مقتدر بذكاءٍ نادر. يؤمن أن السياسة ليست فنّ الممكن فقط، بل فنّ تهذيب الممكن، وأن الإصلاح لا يتحقق بالشعارات بل بإعادة هندسة الإنسان نفسه.
يمتاز خطابه بأسلوبٍ يجمع بين الدقة الأكاديمية والدفء الإنساني، فهو يكتب بلسان المفكر، لكنه يخاطب قلب المواطن. كلماته ليست مجرد أفكار تُقرأ، بل دعوات للتفكير، وجرس إنذار ضد السطحية. وربما سرّ جاذبيته يكمن في تلك المسافة التي يتركها بين الفكرة والاحتمال، بين النقد والأمل. فهو لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يزرع الأسئلة في العقول، كمن يحرّك ساكناً في بحيرة راكدة.
من يتأمل مساره يكتشف أن الرجل يحمل مشروعًا فكريًا متكاملاً يتجاوز حدود الجامعة، مشروعًا يتأسس على قيم النهضة العقلانية، وعلى الإيمان بأن التعليم هو السلاح الأجمل في وجه الانحطاط. ولعلّ هذا ما يجعله يقف ضد كل نزعةٍ تُحوّل المدرسة إلى سوقٍ أو المختبر إلى شعار. إنه يؤمن أن المعرفة مسؤولية، وأن المثقف الذي لا يدافع عن كرامة العلم يشارك في جريمة تجهيل الأمة.
في زمنٍ تغلب فيه الضوضاء على العمق، يصبح أمثال رشيد مقتدر نُدرة. لأنه ينتمي إلى مدرسة المفكرين الذين يكتبون للعقل لا للمنصة، ويخاطبون الوجدان قبل الجمهور. وحين يتحدث، يذكّرك بأن الفكرة ليست زينةً لغوية، بل موقف وجوديّ. وأن الإنسان الذي لا يسائل ما يعتقد، يعيش على هامش التاريخ.
إنّ حضوره لا يُقاس بعدد الخطابات ولا بطول السير الذاتية، بل بقدرة أفكاره على الصمود في وجه النسيان. فكم من مسؤولٍ مرّ، وكم من مفكرٍ طوى النسيان اسمه، لكنّ من يزرع الوعي لا يُمحى أثره. وهذا هو جوهر العبقرية في مسيرة الدكتور رشيد مقتدر: أنه اختار أن يكون صوتًا للعقل وسط الصخب، وصورةً للأمل وسط العتمة.
وحين يسأله أحدهم: ما غايتك من كل هذا الجهد؟ يجيب بهدوءٍ يشبه اليقين: “أريد أن أرى هذا الوطن وهو يُفكّر.”
جوابٌ بسيطٌ، لكنه كفيلٌ بأن يُختصر فيه مشروع فكرٍ كامل، وجيلٌ من الأساتذة الذين حملوا همّ الوطن على أقلامهم قبل أن يحمله السياسيون على برامجهم.
إنّ فكر الدكتور رشيد مقتدر ليس خطابًا عابرًا، بل رؤية متكاملة تعيد الاعتبار إلى الإنسان بوصفه محور كل إصلاح. فهو يؤمن أن السياسة بلا تربية عبث، وأن التعليم بلا فكرٍ نقديٍّ استبداد ناعم. لهذا، لا ينفصل عنده الفعل عن المعنى، ولا الفكر عن الموقف. في كل محاضرةٍ له، تشعر أن الفكرة تتحول إلى طاقة، وأن اللغة تتحوّل إلى جسرٍ بين الوعي والواقع.
ومن هنا، يصبح مشروعه الفكري امتدادًا لتلك الرؤية التي دعا إليها موران: أن نعيد للعقل مكانته، وللإنسان معناه، وللوطن صوته الحقيقي. فحين يتحاور العلم مع السياسة، ويتزاوج الوعي مع الفعل، يولد جيلٌ جديد لا يكتفي بالحلم، بل يصنعه.
في النهاية، لا يمكن اختزال رشيد مقتدر في لقبٍ أو صفةٍ أكاديمية، لأنه قبل كل شيء حالة فكرية مغربية تحمل في داخلها نَفَس الإصلاح، وقلق الفيلسوف، وإصرار المعلم. إنه يؤمن أن الكلمة يمكن أن تغيّر، وأن السؤال يمكن أن يشعل ثورة. وبهذا، يظلّ حضوره أشبه بمرآةٍ نادرة تعكس ملامح الغد وسط غبار الحاضر.
إنه الدكتور رشيد مقتدر… الإنسان الذي آمن أن أخطر أزماتنا ليست في السياسة ولا في الاقتصاد، بل في ضياع الفكرة النبيلة بين الثرثرة والصمت…

